عدنان بن عبد الله القطان

23 ربيع الأول 1443 هـ – 29 أكتوبر 2021 م

———————————————————————————–

الحمد لله القوي القهار، العزيز الجبار، يعذب مَن يشاء بعدله، وينجي مَن يشاء برحمته، لا رادَّ لأمره، ولا معقِّب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، نحمده فهو أهل الحمد في السراء والضراء، وليُّ النعماء، ودافع البلاء، ومُجِيب الدعاء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا نجاة من عذابه إلا بطاعته، ولا مفرَّ منه إلا إليه، هو مقصدُ المنيبين، وأمانُ الخائفين، وملاذُ التائبين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أعلم الناس بالله  تعالى  وأكثرهم رجاءً له، وخوفًاً منه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فإنه لا نجاة للعباد من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالتقوى؛ (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)

معاشر المسلمين: مَن عرف الله تعالى حق المعرفة بأسمائه وصفاته وخلقه وآياته، مع هدايته للإيمان واليقين، قام في قلبه من مهابة الله تعالى وتعظيمه وإجلاله ما يدفعه للطاعات، ويحجزه عن فعل المحرمات؛ محبةً لله تعالى ورجاء لثوابه، وخوفًاً من عذابه، وكلَّما ازداد علمُ العبد بربه، ويقينُه بخالقه ازداد مهابة له، وخوفًاً منه. ولذا كان أشد الخلق خوفًاً من الله عز وجل مَن كانوا أعلم به سبحانه، وهم الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول سبحانه وتعالى  في الملائكة: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ويقول تعالى: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ويقول في الرسل  عليهم السلام: (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) ويقول: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ). وقد نهى الله تعالى عن الخوف من غيره  عز وجل  فقال يخاطب المؤمنين: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ويقول: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) يقول الزاهد أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب... أيها الأخوة والأخوات في الله: إن مَن قرأ كتاب الله  تعالى  وعلم ما اتصف به ربنا سبحانه من العظمة والعزة والقهر، والقوة والجبروت والقدرة، مع تدبُّره لما يقرأ  امتلأ قلبه بالرهبة والخوف من الله  تعالى مع محبته وتعظيمه ورجائه وإجلاله؛ ففي القرآن الكريم يبين تعالى أسمائه وصفاته، فيقول عن نفسه بأنه هو: (الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ويقول: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ويقول: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ويقول جل وعلا: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وفي القرآن الكريم عشرات الآيات، التي تبيِّن شيئاً من أسماء ربنا الحسنى وصفاته العلى، لا يملك قارئها إلا أن يسبح الله  تعالى  ويكبره ويذكره… أيها المؤمنون: ثم إذا تأمل المؤمن حاجة الخلق إلى ربهم، وغناه  سبحانه  عنهم، وقدرته  تعالى  عليهم، مع عجزهم عن ردِّ عذابه أو تخفيفه أو النجاة منه، سعى فيما يرضيه، وجانَب ما يسخطه؛ يقول الله  سبحانه  لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ) ويقول تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)

عباد الله: لقد قرأنا في القرآن الكريم أن ربنا  سبحانه وتعالى مع كمال قدرته وقوته، وعزته وكبريائه، وقهره وجبروته، لما عذَّب مَن استحقوا العذاب من خلقه، كان عذابه أليماً شديداً، وقد قص ذلك علينا لنحاذر سخطه، ونجتنب أسباب عذابه؛ فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقال: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) وقال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) وقال: (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وقال سبحانه: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)وقال: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، وآيات أخرى كثيرة تثبت شدة عذاب الله  تعالى وقوة بطشه، وسرعة انتقامه… عباد الله: وقرأنا في القرآن الكريم أيضاً تنوُّع عقوباته، فهي ليست عقوبة واحدة، ولا على طريقة مألوفة، فلا يدري العباد كيف يعذَّبون، ولا ما يحاذرون؛ لأن مظانَّ الرحمة قد يقلبها الله – تعالى – عذاباً؛ فالغرق عذابٌ يأتي مما ظاهره الرحمة وهو المطر، فيفرح الناس به وهو عذابهم، كما أُهْلِك به قوم نوح  عليه السلام، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) وقال: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) وأغرق الله بالسيل جنان سبأ وأموالهم، قال عز وجل: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وبالغرق في البحر أهلك الله فرعون وجنده قال سبحانه: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) فسبحان مَن جعل الماء الذي لا حياة للناس إلا به سبب هلاكهم ! وسبحان مَن عظمت قدرته، فقلب آية الرحمة عذاباً، وأغرق بالمطر أقواماً! والريح آية أخرى لا حياة على الأرض بفقْدها، ومع ذلك يجعلها الله  تعالى عذاباً لِمَن شاء من خلقه، وقد أهلك الله بها عاداً لما كذبوا هوداً  عليه السلام  قال جل وعلا: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) وفي الحديث الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَإِذَا تَخَيَّلَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ)

أيها المسلمون والمسلمات: والصيحة صوت والصوت في العادة لا يضرُّ الأعيان، والبشر قد جُبِلوا على الأصوات ضعيفها وقويها، ومع ذلك جعل الله  تعالى  بقدرته هذا الصوت هلاكاً للمكذبين، فعذب الله به ثمود لما كذبوا صالحاً عليه السلام ؛قال عز وجل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ) وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) فقد أرسل الله تعالى جبريل عليه السّلام بالصّيحة، و صاح صيحة قطعت قلوبهم، وتركتهم جثثاً هامدة في بيوتهم جاثمين.. وأقوام آخرون من المكذِّبين حُصِبوا بالحجارة حتى هلكوا، منهم قوم لوط  عليه السلام، قال سبحانه: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) وقال عز وجل: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) فاقتلع جبريل عليه السلام (بأمر الله) قراهم ورفعها إلى عنان السماء، ثمّ قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر الله عليهم حجارة من سجّيل وهي حجارة صُلبة وقوية مكتوب على كل حجر اسم من ستهبط عليه فلم يبق منهم أحداً وأصبح مكان سكناهم بحيرة مالحة ليس بها نفع وذلك عبرة وآية لقدرة الله عز وجل.

 وعُذِّب بالحجارة أصحابُ الفيل، قال تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)… وعذب قارون بالخسف، فقد ضرب الله مثلاً فيمن أعطاه الله مالاً فكان وبالاً عليه وخسراناً في الدّنيا و الآخرة ، فقد آتى الله قارون مالاً و كنوزاً وفيرةً كان يضعها في خزائن لها مفاتيح، كلّ مفتاحٍ منها يحمله عددٌ من الرّجال لكبر حجمه ووزنه، و قد نصحه قومه و ذكّروه بالله، وحذّروه من الإفساد في الأرض و البغي بغير الحقّ ، وقد استخدم قارون ماله للبطش بالنّاس و التّجبر و التّكبر على الخلق، و لم تفلح محاولات قوم موسى في نصيحته بل و ردّ عليهم بأنّ ماله إنّما جاءه باجتهاد نفسه و علمه و مكانته عند الله بزعمه، و في يوم من الأيام و حين خرج بكامل زينته مستعرضاً جاهه على أعين النّاس إذا بأمر الله يحلّ به فتخسف به و بداره الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة. (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ)

عباد الله: وقد هدَّد الله  تعالى أهل المعاصي بذلك؛ فقال (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) وحوائج البشر إلى ربهم  سبحانه وتعالى  لا تنتهي، فلا حول لهم إلا به  سبحانه  ولا قِوام لهم إلا برزقه، ولو حبسه عنهم لهلكوا؛ ولذا كان القحط والجوع ونضوب الماء وقلة الأمطار هلاكاً، كما كانت زيادتها إلى حدِّ الإغراق عذاباً، وقد عُذِّب أقوامٌ بالجوع حتى هلكوا، وتاريخ البشر مليء بالمجاعات والأوبئة العامة التي هلك فيها أمم من الناس؛ قال عز وجل (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون) وآخرون عُذِّبوا بتلف أموالهم، وذهاب زرعهم وثمارهم، فانقلبوا من السعة إلى الضيق، ومن الغنى إلى الفقر؛ كما كان حال المفاخر بجنته، قال تعالى عنه: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)

وكما كان حال أصحاب الجنة حين تقاسموا على منع الفقراء حقهم من ثمارها؛ قال سبحانه: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)

وعُذِّبت أمةٌ من بني إسرائيل بالمسخ، ففقدوا في لحظات آدميتهم ونُقلوا إلى درك الحيوانية البهيمية، نعوذ بالله تعالى  من سخطه، قال جل وعلا: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وقال تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) وعُذِّب آخرون منهم بالذلِّ والهوان وتسليط الجبابرة عليهم، قتلاً وأسراً وإذلالاً؛ قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) وقال سبحانه: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) فالسعيد عباد الله مَن تدبر كتاب ربه، واتعظ بما حلَّ بالأمم قبله، والشقي مَن أتبع نفسه هواها، فأوبقها وأشقاها، فلا بقيت له الدنيا، ولا سلم في الآخرة…سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) يعني إذا كثرت المعاصي والمنكرات… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

فاتقوا الله عباد الله، وحقِّقوا طاعة ربكم تفلحوا، واجتنبوا معاصيَه تسعَدوا، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)

اللّهمّ انظر إلينا نظرة الرّضا، وأثبتنا في كتاب أهل الصّفا، ونجّنا من كتاب أهل الجفا، اللّهمّ حقّق بالرجاء آمالنا، وأحسن في جميع الأحوال أعمالنا، وسهّل في بلوغ رضاك سبلنا، وخذ بالخيرات بنواصينا.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الفضل والإنعام، توعد من عصاه بأليم الانتقام، ووعد من أطاعه بجزيل الثواب والإكرام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، حث على فعل الطاعات وحذر من المعاصي والآثام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)

 أيها المؤمنون والمؤمنات: من حكمة الله تعالى في قَدَره، وعجيب صنعه في خلقه، أن الآية الواحدة من آياته، يرسلها فتكون رحمة لقوم، وابتلاء لقوم، وعذاباً لقوم، وإنذاراً وتخويفًاً لقوم، فيجتمع في الآية الواحدة من آياته – سبحانه – الرحمة والعذاب، والابتلاء والإنذار والتخويف، وهذا يدل على حكمة العليم الحكيم؛ وصدق الله العظيم: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وإذا كانت الأمم الغابرة المتعاقبة قد عُذِّبت بأنواعٍ من العذاب بحسب ذنوبها، فإن الحضارة المعاصرة التائهة، قد جمعت جميع الأسباب التي عُذِّب بها السابقون؛ لأن مَن يُدير دفَّتها، ويوجهها مع الأسف الشديد هم الماديُّون  والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله  تعالى  ربّاً، ولا يقيمون لدينه وزناً. فالشرك بالله تعالى والاستكبار عن عبادته، ومعاداة رسله، ومحاربة شرائعه وتعاليمه وأوليائه، تلك الموبقات العظيمة التي عُذِّب بسببها السابقون هي البناء الأساس للحضارة المادية المعاصرة؛ إذ أُسِّست على تنحية الإيمان بالغيب، ونبذ الدين، وحصر العمل لأجل الدنيا… وهؤلاء المستكبرون عن عبادة الله تعالى يريدون تعميم هذا الفكر الإلحادي على جميع البشر تحت لافتة الحرية المنفلتة، التي من أهم بنودها مناهضة العبودية لله  تعالى.. والجرائم الأخلاقية التي عُذِّب بسببها قوم لوط، حين شاعت الفواحش فيهم أضحت في عصرنا هذا تُشرَّع بالقوانين في العلاقات المِثْلية، ويروج لها، وتُفرَض على الناس في بعض الدول، ويُلِحُّ الشاذُّون من الرجال والنساء على قبول الناس بقذارتهم وسفالتهم.

والجرائم الاقتصادية، التي فشت في قوم شعيب، فعُذِّبوا بسببها، والربا الذي استحلَّه بنو إسرائيل، فضُربتْ عليهم الذلة بسببه، كل ذلك موجودٌ في اقتصاد اليوم، بل إن مبنى الاقتصاد العالمي هو على الربا والقمار والغش والاحتكار، وأكل أموال الناس بالباطل وها هو الكساد الاقتصادي، والانهيار المالي، يضرب دول العالم المعاصر، ويهوي باقتصاد كثير من الدول… إن آيات الله تعالى ونُذره قد تتابعت كما لم تتتابع من قبل، تمثَّل ذلك في عقوبات متنوعة قد شاهدتموها وعايشتموها وسمعتم عنها عبر وسائل الإعلام المختلفة

منها مصائب ونكبات تحل بالأفراد والمجتمعات والدول، وأعاصيرُ وفيضانات شديدة، اجتاحت مدناً، وابتلعت بشراً كثيراً، وزلازل ضربت مدناً أخرى، فخلفت ألوفًاً من القتلى والمشرَّدين، وأوبئة وأمراض غريبة تظهر في البشر والحيوان بين حين وآخر، وفتن وحروب يزداد اشتعالها كل عام عما قبله، وتلوث في البحار والهواء ينذر بعواقب وخيمة. وصدق الله العظيم: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير).

والمستشرفون للمستقبل يحذرون من مجاعات وأوبئة وأمراض وحروب وفوضى، قد تقع في أيَّة لحظة، ولا دافع للبلاء إلا الله  تعالى  ولا عاصم من أمره  سبحانه،  فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، فلنعتبر يا عباد الله بما نرى ونسمع، وما يجري في العالم، ولنتب إلى الله ربنا توبة نصوحاً، قبل أن يحل بنا عذابه،فكم سمعنا ورأينا أقواماً  كانوا قائلين في فرشهم، آمنين في بيوتهم، متقلِّبين في نِعَمِهم،غافلين عما يفجئهم، أصابهم العذاب من حيث لا يشعرون، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)  فاعتبروا يا عباد الله قبل حلول البلاء؛ فإن العذاب إذا حلَّ بقوم لم يدفعه عنهم شيء؛ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) ألا رحماك ربنا رحماك وعفوك ورضاك.

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك. اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والسيول والفيضانات والحروب والفوضى والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن. عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا سميع الدعاء.

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا انك أنت الغفور الرحيم.

اللهم أغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير. نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم وفِّق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء..

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً ومعيناً.

اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله وأطلق قيده، وفك أسره، وأحي في قلوب المسلمين والمؤمنين حبه ونصرته واجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين

 اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا، واشف مرضانا واشف مرضانا وارحم موتانا وارحم موتانا ووالدينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

             خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين